728x90 شفرة ادسنس

  • اخر الاخبار

    الاثنين، 18 مايو 2015

    فصل في القراءات والمقرئ والقارئ وما يلزمهما وما يتعلق بذلك


    قال  شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833هـ)
    في كتابه: {منجد المقرئين ومرشد الطالبين (ص: 9)}

    الباب الأول: "في القراءات والمقرئ والقارئ وما يلزمهما وما يتعلق بذلك"

    القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة. خرج النحو واللغة والتفسير وما أشبه ذلك. والمقرئ العالم بها وراها مشافهة، فلو حفظ "التيسير" مثلا ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. والقارئ المبتدئ من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثا من القراءات، والمنتهى من نقل القراءات أكثرها وأشهرها. وأول ما يجب على كل مسلم أن يخلص النية لله تعالى في كل عمل يقربه إليه، وأن يقصد به رضا الله تعالى لا غير قال تعالى: {مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وعلامة صدق المخلصين ما قاله السيد ذو النون المصري: ثلاث من علامات الإخلاص: استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة. والذي يلزم المقرئ أن يختلق به من العلوم قبل أن ينصب نفسه للاشتغال أن يعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، ولا بأس من الزيادة في الفقه بحيث إنه يرشد طلبته، وغيرهم إذا وقع لهم شيء، ويعلم من الأصول قدر ما يدفع به شبهة من يطعن في بعض القراءات، وأن يحصل جانبا من النحو والصرف بحيث إنه يوجه ما يقع له من القراءات، وهذا من أهم ما يحتاج إليه وإلا يخطئ في كثير مما يقع في وقف حمزة والإمالة ونحو ذلك
    من الوقف والابتداء وغيره، وما أحسن قول الإمام أبي الحسن الحصري:
    لقد يدعي علم القراءات معشر ... وباعهم في النحو أقصر من شبر
    فإن قيل ما إعراب هذا ووجهه؟ ... رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
    وليحصل طرفا من اللغة والتفسير، ولا يشترط أن يعلم الناسخ والمنسوخ كما اشترطه الإمام الجعبري. ويلزمه أيضا أن يحفظ كتابا مشتملا على ما يقرئ به من القراءات أصولا وفرشا، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير. وإن أقرأ بكتاب وهو غير حافظ له فلا بد أن يكون ذاكرا كيفية تلاوته به حال تلقيه من شيخه مستصحبا ذلك، فإن شك في شيء فلا يستنكف أن يسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب حتى يتحقق بطريق القطع أو غلبة الظن فإن لم1. وإلا فلينبه على ذلك بخطه في الإجازة، وأما من نسي أو ترك فلا يعدل إليه إلا لضرورة، ككونه انفرد بسند عال أو طريق لا توجد عند غيره فعند ذلك والحالة هذه لا يخلو إما أن يكون القارئ عليه مستحضرا ذاكرا عالما بكيفية ما يقرأ أولا، فإن كان فسائغ جائز وإلا فحرام ممنوع. وأن يحذر الإقراء بما يحسن في رأيه دون النقل أو وجه إعراب أو لغة دون رواية.
    ونقل أبو القاسم الهذلي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: لا تغتروا بكل مقرئ إذ الناس على طبقات؛ فمنهم من حفظ الآية والآيتين والسورة والسورتين، ولا علم له غير ذلك فلا تؤخذ عنه القراءة، ولا تنقل عنه الرواية ولا يقرأ عليه، ومنهم من حفظ الروايات، ولم يعلم معانيها ولا استنباطها من لغات العرب، ونحوها فلا تؤخذ عنه لأنه ربما يصحف، ومنهم من يعلم العربية، ولا يتبع الأثر والمشايخ في القراءة فلا تنقل عنه الرواية لأنه ربما حسنت له العربية حرفا ولم يقرأ به والرواية متبعة والقراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ومنهم من فهم التلاوة وعلم الرواية، وأخذ حظّا من الدراية من النحو واللغة، فتؤخذ منه الرواية ويقصد للقراءة. وليس الشرط أن يجتمع فيه جميع العلوم إذا الشريعة واسعة والعمر قصير وفنون العلم كثيرة ودواعيه قليلة، والعوائق ملعومة تشغل كل فريق بما يعنيه. قلت: فحسبك تمسكا بقول هذا الإمام في المقرئ الذي يؤخذ عنه ويقصد.
    ولا يجوز له أن يقرئ إلا بما سمع أو قرأ، فإن قرأ الحروف المختلف فيها أو سمعها فلا إخلاف في جواز إقرائه القرآن العظيم بها بالشرط المتقدم، وهو أن يكون ذاكرا، وما بعده وهل يجوز له أن يقول قرأت بها القرآن كله؟ لا يخلو إما أن يكون قرأ القرآن كله بتلك الرواية على شيخه أصولا وفرشا، ولم يفته إلا تلك الأحرف فيتلفظ بها بعد ذلك أو قبله أو لا، فإن كان فيجوز له ذلك وإلا فلا. ورأى الإمام ابن مجاهد وغيره جواز قول بعض من يقول قرأت برواية كذا القرآن من غير تأكيد إذا كان قرأ القرآن، وهذا قولا يعول عليه، وكنت قد ملت إليه ثم ظهر لي أنه تدليس فاحش، وهذا يلزم منه مفاسد كثيرة فرجعت عنه. وهل يجوز له أن يقرأ القرآن بما أجيز له على أنواع الإجازة؟ جوز ذلك العلامة الجعبري مطلقا، ومنعه الحافظ الحجة أبو العلاء الهمداني، وجعله من أكبر الكبائر. وعندي أنه لا يخلو إما أن يكون تلا بذلك أو سمعه فأراد أن يعلي السند أو يكثر الطرق فجعلها متابعة أولا، فإن كان فجائز حسن فعل ذلك العلامة أبو حيان في كتاب "التجريد" وغيره عن أبي الحسن بن البخاري وغيره متابعة، وكذا فعل الشيخ الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ بالمستنير عن الشيخ كمال الدين الضرير عن السلفي. وممن أقرأ بالإجازة من غير متابعة الإمام أبو معشر الطبري، وتبعه الجعبري وغيره، وعندي في ذلك نظر لكن لا بد من اشتراط الأهلية. ولا بد للمقرئ من التنبيه بحال الرجال والأسانيد مؤتلفها ومختلفها، وجرحها وتعديلها، ومتقنها ومغفلها، وهذا من أهم ما يحتاج إليه. وقد وقع لكثير من المتقدمين في أسانيد كتبهم أوهام كثيرة وغلطات عديدة من إسقاط رجال، وتسمية آخرين بغير أسمائهم وتصاحيف وغير ذلك، وقد نبهت على ذلك في كتاب طبقات القراء، وعقدت في أوله فصلا مشتملا على ما اشتبه في الاسم والنسبة.
    وشرط المقرئ وصفته أن يكون مع ما ذكرناه حرا عاقلا مسلما مكلفا ثقة مأمونا ضابطا متنزها عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة، أما إذا كان مستورا وهو أن يكون ظاهر العدالة، ولم تعرف عدالته الباطنة فيحتمل أنه يضره كالشهادة، والظاهر أنه لا يضره لأن العدالة الباطنة تعسر معرفتها على غير الحكام ففي اشتراطها حرج على الطلبة والعوام. وينبغي للمقرئ أن لا يحرم نفسه من الخلال الحميدة المرضية من الزهد في الدنيا، والتقلل منها وعدم المبالاة بها وبأهلها والسخاء والحلم والصبر ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع والخضوع، وليجتنب الملابس المكروهة وغير ذلك مما لا يليق به، وليحذر كل الحذر من الرياء والحسد الحقد والغيبة واحتقار غيره، وإن كان دونه والعجب وقل من يسلم منه. روينا عن الإمام أبي الحسن الكسائي أنه قال: صليت بالرشيد فأعجبتني قراءتي فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط أردت أن أقول: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72، الأعراف: 168، يوسف: 62] فقلت: لعلهم يرجعين. قال: فوالله ما اجترأ هارون أن يقول لي أخطأت، ولكنه لما سلمت قال لي: يا كسائي، أي لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد! قال: أما فنعم. وينبغي له أيضا أن لا يقصد بذلك توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك.
    وأما أخذ الأجرة على الإقراء ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء؛ فمنع أبو حنيفة والزهري، وجماعة أخذ الأجرة وأجازها الحسن وابن سيرين والشعبي إذا لم يشترط، ومذهب الشافعي، ومالك وعطاء جوازها إذا شارطه واستأجره إجاره صحيحة. قلت: لن يشترط أن يكون في بلده غيره، أما إذا لم يكن غيره فلا يحل له أخذ الأجرة لأن الإقراء صار عليه واجبا. وأما قبول الهدية ممن يقرأ عليه فامتنع من قبولها جماعة من السلف، والخلف تورعا خوفا من أنها تكون بسبب القراءة. وقال الإمام محيي الدين النووي: ولا يشين المقرئ إقراؤه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالا أو خدمة، وإن قل ولو كان على صورة الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه. قلت: وحسن التفصيل كما قيل في القاضي لا يخلو إما أن يكون القارئ كان يهدي للشيخ قبل قراءته عليه أولا، فإن كان فلا يكره. قال الإمام النووي: وليحذر -يعني المقرئ- من كراهته قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به، وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى فإنه لو أراد الله تعالى بتعليمه لما كره ذلك، ولقال لنفسه أنا أردت الطاعة بتعليمه، وقد حصلت وهو قصد بقراءته على غيري زيادة علم فلا عتب عليه.
    فإذا جلس ينبغي أن يكون مستقبل القبلة على طهارة كاملة، ويجلس جاثيا على ركبتيه، ويصون عينيه في حال الإقراء عن تفريق نظرهما من غير حاجة، ويديه عن العبث إلا أن يشير إلى القارئ بأصابعه إلى المد والوقف والوصل، وغير ذلك مما مضى السلف عليه. وينبغي أن يوسع مجلسه ليتمكن جلساؤه فيه لأنا قد روينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير المجالس أوسعها" 2 وليقدم الأول فالأول، فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه؛ هذا الذي رأينا عليه الخلف من شيوخنا لا يفعلون غيره وأخبرونا بذلك عن شيوخهم مسلسلا، وروي عن حمزة أنه كان يقدم الفقهاء من طلبة العلم، فأول من يقرأ عليه سفيان الثوري. وكان أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم يبدآن بأهل السوق لئلا يحتبسوا عن معايشهم. قلت: الظاهر أنهم كانوا يجتمعون للصلاة بالمسجد ثم يجسون بعد أجمعون جملة لا يسبق أحدا أحدا، وإذا كان كذلك فالشيخ عند ذلك مخير في تقديم أيهم.
    وهل يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية؟ فالذي نصر عليه العلماء أنه لا يمتنع، وقالوا: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. معناه أنه كانت عاقبته لله. وينبغي له القيام في مجلسه لمن يستحق الإكرام من طلبته، وغيرهم استمالة لقلوبهم على حسب ما يراه فقد كان نافع يقوم لابن جماز إذا رآه ويرفع قدره ويجل منزلته؛ لأنه كان رفيقه في القراءة على أبي جعفر ثم قرأ عليه. ويستحب أن يسوي بين الطلبة بحبسهم إلا أن يكون أحدهم مسافرا أو يتفرس فيه النجابة أو غير ذلك، وله أن يقرئهم ما شاء كثرة وقلة، وأما ما ورد عن السلف من أنهم كانوا يقرئون ثلاثا ثلاثا، وخمسا خمسا وعشرا عشرا لا يزيدون على ذلك فهذه حالة التلقين. وأما من يريد تصحيح قراءة أو نقل رواية أو نحو ذلك فلا حرج على المقرئ أن يقرئ ما شاء، وقد قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة النساء إلى قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [الآية: 41] وقال نافع لورش: لما قدم عليه وسأله أن يقرأ عليه: بت في المسجد فلما اجتمع عليه أصحابه قال لورش: أبت في المسجد؟ قال: نهم. قال: أنت أولى بالقراءة فقرأ عليه القرآن كله في خمسين يوما. وعلى هذا مضت سنة المقرئين، وقد قرأ الشيخ نجم الدين عبد الله بن عبد المؤمن مؤلف الكنز القرآن كله جمعا بالعشر على شيخ شيوخنا الإمام تقي الدين بن أحمد الصائغ لما رحل إليه إلى مصر في كدة سبعة عشرة يوما، وقرأت أنا على شيخنا العلامة الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ لما رحلت إليه الرحلة الأولى إلى مصر وأدركني السفر، وكنت قد وصلت عليه إلى آخر "الحجر" جمعا للقراءات السبع ضمن "الشاطبية" و"العنوان" و"التيسير" فابتدأت عليه "النحل" ليلة الجمعة، وختمت عليه ليلة الخميس في ذلك الأسبوع، وآخر مجلس قرأته أني ابتدأت من أول "الواقعة" ولم أزل حتى ختمت في مجلس واحد ليلا. وقدم على دمشق شخص من حلب، فقرأ علي القرآن أجمع بقراءة ابن كثير في خمسة أيام متتابعات، ثم قراءة الكسائي في سبعة أيام كذلك.
    ويجوز له الإقراء في الطريق لا نعرف أحدا أنكر هذا إلا ما روي عن الإمام مالك -رضي الله عنه- أنه قال: ما أعلم القراءة تكون في الطريق. وكان الشيخ علم الدين السخاوي -رحمه الله- وغيره يقرؤن في الطريق، وروى ابن أبي داود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه كان يقرئ في الطريق. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أذن فيها. قال الشيخ محي الدين النووي -رحمه الله: وأما القراءة في الطريق فالمختار أنها جائزة غير مكروهة إذا لم يلْتَهِ صاحبها، فإن التهى عنها كرهت كما كره النبي صلى الله عليه وسلم القراءة للناعس مخافة من الغلط. قلت: وقد قرأت على الإمام شمس الدين بن الصائغ في الطريق غير مرة، تارة أكون أنا وهو ماشيين وتارة يكون راكبا على البغلة وأنا ماش. وأخبرني غير واحدة من شيوخنا منهم الإمام العلامة القاضي محب الدين بن يوسف الحلبي ناظر الجيوش الشامية أنهم كانوا يستبشرون يوم بروح الشيخ تقي الدين الصائغ إلى جنازة. قال القاضي محب الدين: كثيرا ما كان يأخذني في خدمته، فكنت أقرأ عليه في الطريق ماشيا، وهو راكب على حمارته. وقال عطاء بن السائب: كنا نقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وهو يمشي قال السخاوي عقب هذا: وقد عاب قوم علينا الإقراء في الطريق، ولنا في أبي عبد الرحمن أسوة، كيف وقد كان لمن هو خير منا قدوة؟
    وينبغي له إذا أراد التصنيف أن يبدأ بما يعم النفع به وتكثر الحاجة إليه بعد تصحيح النية، والأولى أن يكون شيئا لم يسبق إلى مثله، وليحذر ما استطاع وليحسن الثناء على من يذكره من الأئمة والشيوخ.
    وأما القارئ فتقدم حكمه، وما يجب عليه من الإخلاص وحسن النية ثم يجد في قطع ما يقدر عليه من العلائق والعوائق الشاغلة عن تمام مراده، وليبادر في شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف فهذه آفة الطالب، وأن لا يستنكف عن أحد وجد عنده فائدة. وليقصد شيخا كملت أهليته، وظهرت ديانته جامعا لتلك الشروط المتقدمة أو أكثرها، فإذا دخل عليه فليكن كامل الحال متنظفا متطهرا متأدبا، وعليه أن ينظر شيخه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على نظرائه. قال الربيع صاحب الشافعي: ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له. فإن وقع منه نقص فليجعل النقص من نفسه بأنه لم يفهم قول الشيخ كان بعض أهل العلم إذا ذهب لشيخه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني.
    وينبغي أن لا يذكر عند شيخه أحدا من أقرانه ولا يقول قال فلان خلافا لقولك، وأن يرد غيبة شيخه إن قدر، فإن تعذر عليه ردها قام وفارق ذلك المجلس. وإذا قرب من حلقة الشيخ فليسلم على الحاضرين وليخص الشيخ بالتحية، ولا يتخطى رقاب الناس بل يجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يأذن له الشيخ في التقدم. ولا يقيم أحدا من مجلسه فإن آثره لم يقبل اقتداء بابن عمر -رضي الله عنهما- إلا أن يقسم عليه أو يأمره الشيخ بذلك. ولا يجلس بين صاحبين بغير إذنهما، وإذا جلس فليتوسع وليتأدب مع رفقته وحاضري مجلس الشيخ فإن ذلك تأدب مع الشيخ وصيانة لمجلسه. ولا يرفع صوته رفعا بليغا ولا يضحك ولا يكثر الكلام ولا يلتفت يمينا ولا شمالا بل يكون مقبلا على الشيخ مصغيا إلى كلامه. قال الشيخ محي الدين النووي: ومن آدابه -يعني القارئ- أن يحتمل جفوة الشيخ وسوء خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله فيتأول أفعاله وأقواله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة فلا يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق أو عديمه انتهى.
    وينبغي أن لا يقرأ على الشيخ في حال شغل قلب الشيخ وملله وغمه وجوعه وعطشه ونعاسه وقلقه ونحو ذلك مما يشق على الشيخ أو يمنعه من كمال حضور القلب، وأن يحرص كل الحرص على أن يقرأ على الشيخ أولا فإنه أَفْوَد له وأسهل على الشيخ. وإذا أراد القراءة ينبغي أن يستاك بعود من أراك فإنه أبقى للفصاحة وأنقى للنكهة. ويجوز له القيام لشيخه وأستاذه وهو يقرأ، ولمن فيه فضيلة من علم أو صلاح أو شرف أو سن أو حرمة بولاية أو غير ذلك، وذكر الشيخ محيي الدين النووي أن قيام القارئ في هذه الأحوال وغيرها مستحب لكن بشرط أن يكون القيام على سبيل الإكرام والاحترام لا على سبيل الرياء والإعظام.
    وينبغي أن يفرد القراءات كلها، فإن أراد الجمع فلا بد من حفظ كتاب جامع في القراءات. وعليه أن يحفظ كتابا في الرسم وليعلم حقيقة التجويد ومخارج الحروف وصفاتها، وما يتعلق بها علما وعملا.
    وأما الجمع وكيفيته فلم أر أحدا نبه عليه، ولم يكونوا في الصدر الأول يقرئون بالجمع، وقد تتبعت تراجم القراء فلم أعلم متى خرج الجمع، وقد بلغني أن شخصا من المغاربة ألف كتابا في كيفية الجمع لكن ظهر لي أن الإقراء بالجمع ظهر من حدود الأربعمائة وهلم جرا وتلقاه الناس بالقبول، وقرأ به العلماء وغيرهم لا نعلم أحدا كرهه. أقرأ به الحافظ أبو عمرو الداني ومكي القيسي وابن مهران وأبو القاسم الهذلي، وأبو العز القلانسي والحافظ أبو العلاء الهمداني والشاطبي وإسحاق، وممن قرأ به من المتأخرين الإمام الحافظ أبو شامة والإمام المجتهد أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الجعبري والناس. والذي ينبغي أن القارئ لا يقصد بتكراره وجه الرواية فقط، وإنما يقصد التدبر والتفكر وتكثير الأجر وأن له بكل حرف عشر حسنات. وينبغي أن لا يقف إلا على وقف أجازه العلماء، ولا يبتدئ إلا بما تظهر به الفائدة وليكرر الوجه بعد الوجه من الابتداء إلى الوقف. وأما ما أخذ به بعض المتأخرين من أنهم يقرؤن الجمع كلمة كلمة فبدعة، وحشة تخرج القرآن عن مقصوده ومعناه، ولا يحصل منها مراد السامع والله تعالى أعلم بما على من يتعمد ذلك.
    ولا حرج على القارئ أن يبتدئ في حالة الجمع بما شاء من القراءات في تقديم وتأخير إذ المقصود قراءة جميع الأوجه لكن الأسهل أن يقرأ بالترتيب كما رتبه صاحب كتابه. والأولى أنه إذا وقف على قراءة يبتدئ بها فإنه أقوى في الاستحضار وأبعد من التركيب. وأما ما يتعلق بذلك فمعنى قولنا فيما تقدم أن يكون ذاكرا كيفية تلاوته به الخ إنما هو المذكور في الكتاب من فرش وأصول ونحوه مما لا حرج فيه إذ غيره لا ينضبط لأن كل كلمة وصلها أو فصلها على شيخه متى فصل الموصولة أو وصل المفصولة خالفه كما لو ابتدأ بهمزة الوصل في نحو {لِقَاءَنَا ائْتِ} [يونس: 15] أو وقف على حرف مبدل نحو "نعمة" و"رحمة" أو حرف مد نحو {قَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] {قَالُوا الْآنَ} [البقرة: 71] {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} [القرة: 269] فإن ادعى أحد ضبط كيفية تلاوته على شيخه بذلك، وقال أصل ما وصلت وأفصل ما فصلت، فجوابه أن سوعدت على ذلك، وتحريت وضبطت فأقرأت به جعلت الجائز واجبا لكن نقول: النقل على قسمين: مقروء ومروي، فالأول المقروء على معرفة كيفية تلاوته وضبطها، والثاني نحو ما مثلنا به آنفا فينبغي للمجيز أن يقول: أذنت أو أجزت له أن يقرأ بما قرأه علي وما لا حرج فيه، ويقول المجاز في الأول قرأته، وفي الثاني رويته، وأعلى ما يكتب للمجاز الإذن والأهلية لا يكتب إلا لذلك، وذاك ثم كذلك، ويجوز له أن يقول: أجزت له أن يقرئ بكذا عند تأهله لذلك. ولا بد من سماع الأسانيد على الشيخ والأعلى أن يحدث الشيخ بها لفظه، فأما من لم يسمع الأسانيد على شيخه فأسانيده من طريقه منقطعة. وأما ما جرت به العادة من الإشهاد على الشيخ بالإجازة والقراءة فحسن يدفع التهمة ويسكن القلب، وأمر الشهادة يتعلق بالقارئ يشهد على الشيخ من يختار، والأحسن أن يشهد أن أقرانه النجباء من القراء المنتهين لأنه أنفع له حال كبره.
    فصل:
    تعلم القراءة فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعين عليه، وإن كان جماعة يحصل المقصود ببعضهم، فإن امتنعوا كلهم أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين، وإن طلب من أحدهم وامتنع فأظهر الوجهين عندنا أنه لا يأثم لكن يكره له ذلك إن لم يكن له عذر.
    وهل يجوز تركيب قراءة في قراءة؟ لا يخلو إما أن يكون عالما أو جاهلا، فإن كان فعيب وإلا فغير الأولى. وأطلق الإمام محي الدين النووي حيث قال: إنه ابتداء -يعني القارئ- بقراءة أحد القراء فينبغي أن لا يزال على القراءة بها ما دام الكلام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أخرى من السبعة، والأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس. وقال أبو عمرو ابن الصلاح في آخر جوابه عن السؤال الذي ورد من العجم: وإذا شرع القارئ بقراءة ينبغي أن لا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به، وما خالف هذا ففيه جائز، وممتنع وعذر المرض مانع من بيانه بحقه والعلم عند الله تعالى(3).

    __________
    1 كذا في الأصل.
    __________
    2 رواه أبو داود في الأدب باب12، وأحمد في مسنده "3/ 18، 69".
    __________
    3 المصدر:
    الكتاب: منجد المقرئين ومرشد الطالبين
    المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833هـ)
    الناشر: دار الكتب العلمية
    الطبعة: الأولى 1420هـ -1999م
    عدد الأجزاء: 1
    [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 التعليقات:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: فصل في القراءات والمقرئ والقارئ وما يلزمهما وما يتعلق بذلك Rating: 5 Reviewed By: الإتقان في تجويد القرآن
    Scroll to Top